التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن التتار بعد تدميرهم لبغداد وهزيمتهم في عين جالوت؟
مصير التتار بعد عين جالوت
يتبادر إلى ذهن كثيرٍ من الناس عند ذكر التتار، جميع الصفات التي لا تمتُّ للإنسانيَّة بصلة؛ من وحشيَّة وقسوة وإبادة وقضاء على الأخضر واليابس؛ وذلك لِمَا بدر منهم في البداية، عندما اجتاحوا العالم الإسلامي بجيوشهم الجرَّارة، حتى ظنَّ الكثيرون في ذلك الوقت أنَّ نهاية المسلمين قد بدأت، وأنَّ الفناء في انتظارهم، وكتب كثيرٌ من علماء المسلمين ومؤرِّخيهم يَرْثُون العالم الإسلامي عاجزين عن الوصف والتعبير عمَّا يحدث[1].
والسؤال الآن ما هو أثر التتار في تاريخ المسلمين غير القتل والإبادة؟
ماذا تعرف عن التتار بعد تدميرهم لبغداد وهزيمتهم في عين جالوت؟
الإجابة التي تغيب عن أذهان الكثير من المسلمين هي أنَّ السلطان بيبرس غزا دولة سلاجقة الروم التابعة للتتار وأصبحت تابعة له عام 676هـ، ثم في عام 680هـ بدأ التتار يتأهبون للإغارة على مصر، فتصدَّى لهم السلطان قلاوون وهزمهم بالقرب من حمص، ثم في عام 699هـ هزم التتار المماليك واستولوا على دمشق؛ وبعد ثلاث سنوات في عام 702هـ هزمهم السلطان الناصر هزيمة شنيعة. ومع ذلك فإن التتار بعد خمسةٍ وثلاثين عامًا من دخولهم ديار المسلمين؛ بدءوا يدخلون في الإسلام؛ بل لم يمضِ نصف قرنٍ على دخولهم ديار المسلمين إلَّا وأصبحت الغالبيَّة العظمى منهم مسلمين، وأعزَّ الله الإسلام بكثيرٍ منهم، وفتحوا الكثير من البلاد وثبَّتوا بها أقدام المسلمين لفترة كبيرة من الزمن، بل منهم من حارب أبناء جلدته في سبيل الإسلام
وممَّا كرَّس عند كثيرٍ من المسلمين الصورة الأولى للتتار، الاجتياح التتري بقيادة تيمورلنك لبلاد المسلمين، وفي هذه المرَّة يتمُّ الاجتياح والتتار معتنقون الإسلام، ويتَّبعون وسائل فاقت في بشاعتها ما فعله سابقوهم قبل أن يدخلوا في الإسلام.
ولا نُنكر أنَّ كثيرًا من التتار لم يتخلَّصوا حينئذٍ من بعض الصفات المتأصِّلة في الآباء والأجداد حتى بعد دخولهم الإسلام، وأنَّ الجانب العقدي والدعوي الإسلامي لم يكن مثلما كان في عهد المسلمين الأوائل، ولكن يجب -أيضًا- ألَّا نغفل عن إبراز إيجابيَّاتهم في تاريخ المسلمين، وإسهامهم في زيادة الرقعة الإسلاميَّة بشكلٍ لم يسبق له مثيل، ولم يتكرَّر حتى الآن، وفي إدخال الإسلام إلى الكثير من البلاد التي لم يطأها المسلمون قبلهم، وتأثيرهم فيها على الرغم من المحاولات المستمرَّة من أعداء الإسلام لإبادتهم والقضاء عليهم، والتي ذاقوا فيها الأمرَّين وما زالوا حتى الآن يعيشون آلامها، ولكنَّهم يتحمَّلون ويتمسَّكون بدينهم، وحينما يعود المسلمون إلى رشدهم سيكون لهؤلاء المسلمين بالغ الأثر في إعادة بسط سلطان المسلمين على هذه البلاد وعلى العالم أجمع بإذن الله، ونستطيع أن نقول إنَّ التتار ورثوا ديار الإسلام من أقصى الشرق إلى حدود المنطقة العربيَّة وحدود وسط أوروبا.
ومن أسباب التعتيم الكبير على تاريخهم أنَّهم ذابوا في المجتمعات الإسلاميَّة التي حكموها وأصبحوا من أهلها، كما أنَّ دولتهم الكبيرة تفتَّتت إلى دول (خانات) كثيرة، وكانت الحروب بينها لا تنقطع؛ فلم يظهروا بعد إسلامهم يدًا واحدةً حتى عندما استطاع تيمورلنك أن يضمَّ أجزاء كثيرة من بلاد التتار وما زادها إلَّا تفتُّتًا وتمزيقًا.
تقسيم دولة التتار الكبرى:
احتلَّ جنكيز خان جزءًا كبيرًا من المعمورة، وقسَّم إمبراطوريته بين أبنائه من زوجته الأولى[2] كما كان ينصُّ تشريع التتار (اليساق)، فأعطى ابنه الأكبر جوجي بلاد روسيا، وخوارزم، والقوقاز، وبلغار (مدينة قازان الحاليَّة في روسيا)، وما يمكن ضمُّه من غرب المعمورة. وأعطى ابنه جغطاي بلاد الأويغور (ولاية كانسو في الصين حاليًّا)، والتركستان الغربيَّة، وبلاد ما وراء النهر. وأعطى ابنه تولوي خراسان، وفارس، وما يمكن ضمُّه من آسيا الصغرى وبلاد العرب. وأعطى ابنه أوغطاي بلاد التتار (منغوليا الحاليَّة)، والصين، والخطا (تركستان الشرقيَّة)، وما يمكن ضمُّه من شرق المعمورة.
وقبل أن نبدأ في سرد الأحداث ننقل كلامًا نفيسًا للعلَّامة أبو الحسن الندوي حول معجزة انتشار الإسلام في التتار، فيقول: (وقبل أن ينجرف العالم الإسلامي مع هذا السيل الجارف العنيد، وينطمس معالمه وملامحه، كما كان المشاهد الملموس عند ذوي البصيرة والخبرة من المؤرِّخين المسلمين في ذلك الحين، بدأت دعوة الإسلام تنتشر فجأةً في هذا الشعب، ويتحقَّق على أيدي دعاة الإسلام ما لم يتحقَّق بالأسنَّة والرماح، وبطش السلاطين والملوك، وبدأ الإسلام يتسرَّب في نفوس أعدائه، ويأخذ بمجامع قلوبهم، إنَّ خضوع هذا الشعب الذي قهر المسلمين أمام الإسلام من أغرب الوقائع والأحداث في التاريخ؛ فإنَّ هجوم التتر على العالم الإسلامي كالجراد المنتشر، وإخضاع العالم الإسلامي كلِّه، ليس من الغريب المدهش كما يبدو في الظاهر؛ فإنَّ عالم الإسلام في القرن السابع كان بدوره مصابًا بتلك الأمراض والأسقام، التي تلحق الأمم عامَّةً في أوج حضارتها وشوكتها، وبالعكس من التتر، ذلك الشعب القوي الأبي الذي نشأ على حياة البداوة والهمجيَّة والضراوة، ولكن الغريب المدهش أنَّ هذا الشعب خضع للمسلمين، المقهورين، واعتنق دينهم في أوج قوَّته، وذروة سلطانه، ذلك الدين الذي فقد كثيرًا من سلطانه السياسي والمادِّي آنذاك، وكان أتباعه موضع سخريةٍ واحتقار في نظر التتار)[3].
. وقد قال توماس أرنولد متعجبًا من ذلك: (تنافس الأديان في اكتساب صداقة المغول ولكن لم يكن بد من أن ينهض الإسلام من تحت أنقاض عظمته الأولى، وأطلال مجده الخالد، كما استطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملهم على اعتناقه، ويرجع الفضل في ذلك إلى نشاط الدعاة من المسلمين الذين كانوا يُلاقون من الصعاب أشدها لمناهضة منافسَين قويَّين، كانا يحاولان إحراز قصب السَّبْق في ذلك المضمار، وليس هناك في تاريخ العالم نظيرٌ لذلك المشهد الغريب، وتلك المعركة الحامية التي قامت بين البوذيَّة والمسيحيَّة والإسلام، كلُّ ديانةٍ تُنافس الأخرى لتكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة، الذين داسوا بأقدامهم رقاب أهل تلك الديانات العظيمة ذات الدعاة والمبشِّرين في جميع الأقطار والأقاليم)[4].
ويظهر أنَّه لم يكن من اليسير منافسة الإسلام في مستهلِّ الحكم التتاري لغيره من الديانات القويَّة، كالبوذية والمسيحيَّة، كانت عملًا بعيد المنال؛ إذ إنَّ المسلمين كانوا قد قاسوا أكثر من غيرهم من ذلك الاضطراب الذي صحب غارات التتار، وإنَّ معظم هذه المدن التي كانت حتى ذلك الحين مجمع السلطة الدينيَّة وكعبة العلم في الإسلام في القارَّة الآسيويَّة، قد أصبح معظمها أطلالًا دارسة، حتى إنَّ الفقهاء وأئمَّة الدين الأتقياء، كان نصيبهم القتل أو الأسر، وكان من بين حكَّام التتار -الذين عُرِفوا عادةً بتسامحهم نحو الأديان كافَّة- من يُظهر الكراهية للدين الإسلامي على درجاتٍ متفاوتة؛ فقد أمر جنكيز خان بقتل كلِّ من يذبح الحيوانات على النحو الذي قرَّره الإسلام، ثم سار على نهجه قوبيلاي، فعيَّن مكافآت لكلِّ من دلَّ على من يذبح بهذه الطريقة، واضطهد المسلمين اضطهادًا عنيفًا دام سبع سنين، حتى إنَّ كثيرًا من المعدمين وجدوا في سَنِّ ذلك القانون فرصةً لجمع الثروة، واتَّهم الأرقَّاء مواليهم بهذه التهمة لكى يحصلوا على حريَّتهم، وعانى المسلمون في عهد كيوك (1246- 1248م)، فقد حسَّن له أتابكه قداق والأمير جينقاي النظر إلى النصارى والمطارنة والأساقفة والرهابين فصارت الدولة مسيحية ، وارتفع أمر النصارى في عهده، ولم يكن لأي مسلم كفل من ذلك.
وقد اضطهد أرغون (1284- 1291م) -رابع إيلخانات التتار في فارس- المسلمين في بلاده، وصرفهم عن كافَّة المناصب التي كانوا يشغلونها في القضاء والماليَّة، كما حرم عليهم الظهور في بلاطه، وعلى الرغم من جميع المصاعب، أذعن هؤلاء التتار والقبائل المتبربرة آخر الأمر لدين هذه الشعوب التي ساموها العسف وجعلوها في مواطئ أقدامهم.
إنَّ هذا الحدث مثار دهشةٍ وعجب، ولكنَّ استغرابنا يشتدُّ حينما لا نجد تفاصيله وافيةً في بطون التاريخ، إنَّنا لا نكاد نعثر على أسماء هؤلاء الأعلام والأبطال الذين حقَّقوا هذه المآثر، وأدخلوا هذا الشعب الهمجي في حظيرة الإسلام، مع أنَّ هذه المآثر لا تقلُّ أهميَّةً عن أيِّ مأثرةٍ إسلاميَّةٍ في التاريخ، ولهم فضلٌ لا يُنكر، لا على رقاب المسلمين فحسب، بل على الإنسانيَّة كلِّها، إلى أن يأذن الله لها بالفناء؛ فإنَّهم أنقذوا العالم من دمارٍ محتوم، ووضعوه تحت رعاية شعبٍ يؤمن بالله وحده، ويدعو إلى دين محمد ﷺ.
نبذة عن بعض المغول المسلمين:
1- مغول الشمال:
أقطع جنكيز خان ابنه الأكبر جوجي بلاد الروس وبلغار والقوقاز وما يُمكن ضمه من غرب المعمورة (شرقي أوروبا وغربي سيبيريا) (انظر الخريطة رقم 28)، وأطلق على أسرة جوجي أسرة مغول الشمال أو القبيلة الذهبيَّة، وقد أوصى جنكيز خان لجوجي بوراثة منصب الخان الأعظم للمغول بعد وفاته، ولكن وافت جوجي المنيَّة قبل أبيه، فاختير أخوه أوغطاي لهذا المنصب، وخرج المنصب من عائلة جوجي، ولكن على الرغم من ذلك كانت لأسرة جوجي مكانةٌ خاصَّةٌ عند التتار؛ فكانت لهم ثلث الغنائم التي يحصل عليها التتار في حروبهم، وهي نسبةٌ توافق النسبة التي تصل إلى الخان الأعظم[5]
كان للإسلام بالغ الأثر في نفوس أبناء جوجي، ويرجع ذلك إلى أنَّ أباهم جوجي تزوَّج الأميرة رسالة بنت علاء الدين خوارزم شاه، التي وقعت في الأسر وهي أخت السلطان جلال الدين منكبرتي، فعاشت مع أسرة جوجي، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في نفوس أبنائه باتو وبركة وغيرهما؛ لذلك كان باتو عطوفًا على المسلمين على الرغم من أنَّه لم يعتنق الإسلام.
زاد حقد باتو بعد تولِّي كيوك منصب الخان الأعظم، وقد كان كيوك من قبل تحت إمرته في الحروب مع أوروبا، وقد تربَّى كيوك على يد نصراني عَهِدَ أوغطاي له بتربيته، وعندما تولَّى منصب الخان الأعظم أعلن اعتناق النصرانيَّة، وانتشر الكثير من الرهبان والقساوسة في بلاد التتار، وأخذوا يُحرِّضون كيوك على باتو؛ لأنَّه يعطف على المسلمين، فاشتعلت الخلافات بين باتو وكيوك حتى جهَّز كيوك جيشًا لمحاربة باتو، إلَّا أنَّ كيوك تُوفِّي عام 646هـ قبل وصول الجيش لمنازلة باتو، فعمل باتو جاهدًا على نزع منصب الخان الأعظم من عائلة أوغطاي، وبمساعدة أخيه بركة نصب مانغو ابن تولوي خانًا أعظم؛ لينتقل منصب الخان الأعظم من أسرة أوغطاي إلى أسرة تولوي عام 648هـ.
انتشار الفوضى وانقسام دولة مغول الشمال:
على الرغم من اتِّساع دولة مغول الشمال التي امتدَّت من أواسط بولندا في الغرب إلى أواسط سيبيريا في الشرق، ومن المحيط المتجمِّد في الشمال إلى أذربيجان في الجنوب، وكانت تتضمَّن عدَّة شعوب، منهم: التتر المسلمين في شرق أوروبا، وغرب سيبيريا، وحوض نهر الفولغا، والروس النصارى في أجزائها الغربية، والترك في خوارزم، والأذربيِّين في أذربيجان، وشعوب القوقاز، وغيرهم. إلَّا أنَّه بموت محمود بردي بدأت الفوضى تعمُّ البلاد؛ حيث كان ابنه توقتاميش صغيرًا وبدأت الانقسامات في الظهور، فاستقلَّ الحاج محمد خان بمنطقة سيبير، واستقلَّ ماماي خان بالقرم بعد أن نصب عبد الله خان في مدينة سراي، واستقلَّ الحاج شركس بمنطقة الحاج طرخان (استراخان)، وفرَّ توقتاميش إلى سمرقند عند الجغطائيِّين، وكان تيمورلنك قد قوي أمره في ذلك الوقت، فرحَّب بتوقتاميش، وأعاد له ملكه، ولكن ما لبث أن اندلع الخلاف بينهما ونشب القتال عام 788هـ، وانتهت الحروب بانتصار تيمورلنك وسيطرته على بلاد مغول الشمال، واختفى توقتاميش، وكثرت الروايات عن مصيره.
وبعد أن سيطر تيمورلنك على بلاد مغول الشمال عيَّن من قِبَلِه خانًا عليها، واتَّجه إلى مواصلة حروبه في مناطق أخرى، فأخذت البلاد في التدهور والانقسام وتوالى على بلاد مغول الشمال العديد من الخانات، ووقعت الحروب بين التتار والليتوانيِّين فانتصر التتار، وكذلك وقعت الحروب بين التتار والروس عام 811هـ، ثم اتَّفقا على حرب الليتوانيِّين، وظهرت عدَّة خانات في بلاد مغول الشمال وهي: قازان، والقرم، واستراخان، وسيبير، وخوارزم. وكلُّها انفصلت عن مدينة سراي، وأخذت تُقاتل بعضها البعض، وانحاز فريقٌ منها إلى الروس، وانحاز فريقٌ آخر إلى اليتوانيِّين، وتكرَّرت مأساة الأندلس في بلاد مغول الشمال، واستغلَّ الروس التمزُّق الذي أصابها في ابتلاع الجزء تلو الأخر، حتى استولوا عليها بالكامل.
[1] راجع وصف ابن كثير في نهاية الدولة العباسية.
[2] محمد سهيل طقوش: تاريخ مغول القبيلة الذهبية والهند، ص15.
[3] أبو الحسن الندوي: غارة التتار على العالم الإسلامي وظهور معجزة الإسلام، ص32، 33.
[4] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ص250.
[5] فؤاد عبد المعطي الصياد: المغول في التاريخ، ص164.
التعليقات
إرسال تعليقك